“أزرق، أزرق، لا شيء سوى اللون الأزرق”
هكذا صوّر لنا نزار قباني أعماق البحر في قصيدة رسالة من تحت الماء، صورها بهذه الكآبة، ولكنه كان يتحدث عن الغرق، والغرق هو أن تموت تحت الماء، أما الغوص، فهو أن تحيا في أعماق الماء. وهذا ما كنا أنا وعبدالرحمن في سبت التاسع من ديسمبر لعام ٢٠١٧م، كنا أحياء تحت الماء.
في تمام الساعة السادسة صباح يوم السبت، رنت منبهاتنا لنصحى لليوم المُنتظر، فالغوص في البحر الأحمر هو طموح كل الغواصين حول العالم. أخذنا نتجهز لرحلة الغوص المنشودة ببعض الملابس والمناشف. ثم ركبنا سيارتنا، وقد اتفقنا مسبقًا مع حسن أنه سيذهب بسيارته ونحن سوف سنتبعه بسيارتنا إلى منتجع بحر الأحلام الخاص للغوص، ولكن من هو حسن؟
لمعرفة حسن، يجب أن أحكي لكم قصة الرحلة من البداية. في شهر أكتوبر الماضي قررنا أنا وعبدالرحمن أن نقوم برحلة غوص في جدة، ولكننا لا نعرف كيف نقوم بهذه الرحلة ولا نعرف أيضًا شخص قد قام بها في السعودية. أخذنا نبحث ونسأل دون الوصول إلى نتائج مثمرة، حتى التقيت بمحمد. التقيت بمحمد في ظروف لم تخطر في بالي إطلاقًا. في اليوم الثاني عشر من شهر نوفمبر الماضي، نضمت شركة المراعي يوم المستثمر، وهو يوم تدعو فيه الشركة مجموعة من المستثمرين والمحللين والمؤسسات والشركات المالية، لزيارة مزارعها ومصانعها، وكنت وقتها في قسم علاقات المستثمرين، وهذا هو القسم المسؤول عن تنظيم هذه الرحلة. انتقلنا مع المدعوين في حافلات من مقر الشركة الرئيسي إلى المزارع، جلست في الحافلة خلف محمد ولم أكن أعرفه شخصيًا حينها. تعرفنا على بعضنا في الطريق وتحدثنا حول عدد من المواضيع، حتى بدأ محمد بالحديث عن هوايته المفضلة، الغوص، لم أصدق حينها ما يحدث أمامي، أخبرت محمد عن اهتمامي بتجربة الغوص وأنني عازم على القيام برحلة غوص، ولم يتردد محمد باعطائي بطاقته الشخصية التي تحتوي على وسائل التواصل به، وأصر أن أتصل به حين أقرر القيام برحلة الغوص.
اتصلت بمحمد في اليوم الثاني من ديسمبر، لأخبره بأنني أرغب بالقيام برحلة الغوص في نهاية الأسبوع القادم، ولارتباط محمد المسبق في نفس نهاية الأسبوع، اعتذر مني لعدم تمكنه من القيام بنفس الرحلة معنا، ولكنه وعدني أنه سيرتب لنا رحلتنا مع مجموعة من الشباب الذين يعرفهم. ظل يحاول طوال الأسبوع حتى أخبرني يوم الخميس بأننا سنقوم بهذه الرحلة مع حسن ومجموعة من الشباب.
حين وصلنا إلى منتجع بحر الأحلام، التقينا بعبدالحميد والمدرب محمد الأنصاري. بدأنا مباشرة بتجهيز أدوات الغوص من سترة الغوص واسطوانة الهواء وأحذية الغوص. بعدها قام المدرب محمد باعطائنا تعليمات الغوص ومنها كيفية التنفس بشكل طبيعية وكيفية معالجة ضغط الأذن وخطة الغوص وكيفية التواصل تحت الماء. بعد ربط اسطوانة الهواء بسترة الغوص وتحميل السترة بالأوزان التي تساعدنا على التعمق في البحر وارتداء سترة الغوص. اتجهنا بخطوات محملة بكل هذا إلى الساحل، حيث سنغوص بجانب الساحل، وذلك ساحل صخري حاد الميلان وبالتالي مناسب للغوص.
في البداية، جعلنا المدرب محمد نسبح على سطح البحر لنعتاد على السباحة باسطوانة الهواء، ثم غصنا في البحر عموديًا بشكل تدريجي، حتى اعتدنا على الأمر، بعدها خرجنا إلى سطح البحر مرة أخرى. حين غصنا مرة أخرى، بدأت رحلة الغوص الحقيقية، كان الغوص مذهلًا، فمعرفة أنك تتنفس بشكل طبيعي تحت الماء شعور رائع، وطبعًا ذلك عن طريق انبوبة أعض عليها بفمي ومتصلة باسطوانة الهواء المعلقة في ظهري. والأمر المذهل الآخر، أن مجال الرؤية كبير جدًا تحت الماء، وهذا يجعلك تتمنى أن لا تغمص عينيك و لو للحظة، فالمنظر تحت الماء كان في غاية الجمال. فالعالم أصبح أزرق، إلا حين تنظر باتجاه الساحل، لترى الساحل كجبل صخري ولكن تحت الماء، ويعوم حوله عدد لا منتهي من الأسماك المتعددة الألوان والأشكال والأحجام، فترى سمكة سوداء وأخرى حمراء، وترى سمكة لها جسد كالدائرة وأخرى مستطيلة كالمسطرة، وكلها تعوم في سلام معًا.
الإنسان بطبيعة يطفو على سطح الماء، لذلك كانت سترة الغوص محملة بأثقال تعادل ١٦ باوندًا. وظيفة هذه الأثقال هي جرنا إلى الأسفل، إلى قاع البحر. ولكن سترة الغوص قابلة للنفخ، وذلك لمعادلة الثقل الذي يجرنا للأسفل بقوة ترفعنا للأعلى. وبضخ الهواء في سترة الغوص أو سحبه للخارج، نتحكم بعمقنا داخل البحر دون مجهود بدني يذكر. هذه الآلية جعلتنا كالأسماك، لسنا في القاع ولا القمة، كنا نطفو. حركتنا كانت في كل الاتجاهات ومتعددة الأبعاد، كنا أحرارًا حتى من قانون الجاذبية.
عند الغوص، ستحس بتغير الضغط في إذنك، وستحس بهذا التغير مع كل قدم تنزلها نحو الأعمق. لذلك يجب مراقبة تغير الضغط وعمل اللازم لمعادلة الضغط في الجسم كسد الأنف ومحاولة إخراج الهواء منه. وقد تعاني خلال الغوص من دخول ماء البحر في قناع العين، وذلك سيحجب عنك الرؤية السليمة، وستضطر لإخراج الماء من القناع وأنت في وسط الماء، ذلك عن طريق رفع رأسك للأعلى، ثم الرفع القناع قليلًا من الأسفل، ثم إخراج الماء عن طريق دفعه بالهواء من الأنف. وقد تواجه أمورًا أخرى حين تغوص لأعماق أكبر. ولكننا لأننا لسنا مدربين لها فقد غصنا حتى عمق ٣٠ قدمًا تقريبًا فقط مع المدرب وبالقرب منه.
عدنا إلى سطح البحر بعد أن غصنا لمدة ٣٠ دقيقة تقريبًا، عدنا نمشي على الأرض محملين بالأثقال. خلعنا سترة الغوص وأنزلنا اسطوانة الهواء، فتخلصنا من الأثقال لكننا لسنا أحرارًا كما كنا. الغوص كان أشبه بالحلم من اللحظة الأولى التي خطت فيها أقدامنا على الأرض. أيقنت بعدها أنني سأعود حرًا تحت الماء يومًا ما مرة أخرى.
بعدها تبادلنا أطراف الحديث أنا وعبدالرحمن مع حسن وعبدالحميد والمدرب محمد، وحدثونا عن تجاربهم السابقة في الغوص. وأخبرونا كذلك عن كيفية الحصول على رخصة الغوص بالتفصيل. وودعنا بعض حينها وذهبنا كل في طريقه.
أكتب لكم الآن وأنا مع عبدالرحمن في الطائرة العائدة بي إلى مدينة الرياض وأنا كلي شوق أن أغوص مرة أخرى وأكون حرًا.
يجدر بي أن أذكر أننا خلال يومين تجولنا في مدينة جدة وقد لاحظنا تطورها وذلك بوجود الكورنيش الشمالي الرائع والمصمم بطريقة تدعو لقمة الاستمتاع فيه. وافتتاح العديد من المطاعم الجديدة ذات الأطباق اللذيذة جدًا.
حين تقرأ هذا المقال، فاعلم أنني الآن بين أهلى وأحبابي في مدينة الرياض، وفي نفسي شوق للغوص.
تعليق واحد على “رحلة جدة – الغوص”
[…] أحيانًا كان الهدف هو نشر قصص عن تجاربي وخبراتي مثل رحلة جدة – الغوص، وجدت حماسًا من معارفي ورغبة بمعرفة المزيد، وكذلك […]
إعجابإعجاب